إسرائيل تتخبط في تقديراتها لفاتورة حربها ضد غزة وواقع صرفها يدل على حجم أكبر من المُعلن!
عكست سلسلة التقارير، التي ظهرت في الصحافة الاقتصادية الإسرائيلية خلال الأسبوع المنتهي، حالة التخبّط في وزارة المالية وفي أوساط الحكومة الإسرائيلية بشكل عام في كل ما يتعلّق بتقدير الكلفة الإجمالية للحرب على غزة، من النواحي العسكرية وما يرافقها، وأيضا الصرف على الجانب المدني، فأحد هذه التقارير تحدث عن أكثر من 50 مليار دولار، ليلحق به تقرير يتحدث عن كلفة 16 مليار حتى نهاية العام الجاري، إلا أن محللين وخبراء يقدرون بأن الكلفة ستمتد لسنوات، خاصة في الجانبين الاقتصادي والمدني، وفي هذه الأجواء، تدخل بنك إسرائيل المركزي بقوة لوقف تدهور قيمة الشيكل، وأعاده إلى قيمته قبل الحرب، لكن محللين قالوا إن مسببات التدهور ما تزال قائمة. وبالرغم من هذا، تحدثت تقارير عن انتعاش محدود في الاستهلاك الفردي، رغم أنه ما زال متدنيا، مقارنة مع فترة ما قبل الحرب.
تقديرات ومطبّات مقبلة
تحدث تقرير صادر عن وزارة المالية، في مطلع الأسبوع الماضي، عن أن كلفة الحرب قد تصل إلى 200 مليار شيكل. ونذكر هنا أنه لدى إعداد هذا التقرير، كان سعر صرف الدولار 3.87 شيكل (نهاية التداول الأسبوعي الرسمي، يوم الجمعة 10 تشرين الثاني، وسنأتي عليه لاحقا)، ما يعني أن الكلفة ستتجاوز 50 مليار دولار.
وحسب ذلك التقرير، فإن كلفة وباء كورونا بلغت بالمجمل 160 مليار شيكل، وقد تجاوزت إسرائيل تلك الأزمة، في وقت أقصر من المتوقع، إلا أن تبعات الحرب لن تكون مثل كورونا، لأن قطاعات اقتصادية ستستمر فيها الأزمة، حتى بعد إعلان انتهاء حالة الحرب لفترة طويلة، وبشكل خاص قطاع السياحة الخارجية، وهو مكوّن أساس في احتساب إجمالي النمو الاقتصادي. وحينما نتحدث عن قطاع السياحة، فليس القصد الفنادق والأماكن السياحية فقط، بل أيضا جهات منتجة وتقدم خدمات لقطاع السياحة ستتضرر هي أيضا.
ولحق بهذا التقرير تقرير آخر قال إن كلفة الحرب حتى نهاية العام الجاري 2023، ستبلغ 80 مليار شيكل، وليس واضحا ما إذا في أساس هذا الحساب استمرار الحرب حتى اليوم الأخير من هذا العام.
وبحسب هذا التقدير الأخير، فإن الكلفة العسكرية المباشرة ستصل إلى 40 مليار شيكل، كأقل تقدير، وما بين 15 مليارا إلى 20 مليار شيكل، ستصرف على البلدات المسماة “بلدات غلاف قطاع غزة”، و12 مليار شيكل ستصرف على المصالح الاقتصادية، و9 مليارات شيكل هي صرف مدني زائد، بعد ضم مدن أسدود وبئر السبع وعسقلان إلى قائمة البلدات المتضررة.
في هذا التقرير تم ذكر المساعدة الأميركية، بقيمة 14.3 مليار دولار، وهي تعادل حوالي 55 مليار شيكل. وليس واضحا إذا ستزيد الولايات المتحدة حجم المساعدات لإسرائيل، خاصة وأن التأييد جارف في الكونغرس ومجلس الشيوخ، عدا تأييد الإدارة الأميركية.
في سياق متصل أعلنت وزارة المالية الإسرائيلية، في نهاية الأسبوع الماضي، أن العجز في الموازنة العامة، قفز حتى نهاية تشرين الأول الماضي، إلى نسبة 2.6% من حجم الناتج العام، بعد أن بلغ نسبة 1.5% في نهاية أيلول، وحسب سلسلة من التقديرات فإن العجز قد يصل في نهاية العام الجاري إلى الضعفين، بمعنى أكثر من 5% من حجم الناتج العام، أي حوالي 100 مليار شيكل، مقابل 54 مليار شيكل في نهاية تشرين الأول.
وصدر، في نهاية الأسبوع الماضي، تقرير عن مركز الأبحاث في بنك إسرائيل المركزي، قال في ملخصه إن الاقتصاد الإسرائيلي خسر في الأسابيع الخمسة الأولى للحرب حوالي 10 مليارات شيكل، بسبب التغيب عن العمل، وهذا بسبب توقف جهاز التعليم لأسبوعين، ثم عاد بوتيرة غير كاملة، وأيضا بسبب توقف كلي لمناطق عمل في الجنوب والساحل وغيرهما.
أما بخصوص استدعاء 360 ألف جندي احتياط للخدمة، فتبين من التقرير أن الجيش لم يستوعبهم جميعا، بل أبقى قسما منهم رهن الطلب، وطلب منهم العمل من بيوتهم، ليكونوا جاهزين وقت الطلب، ولهذا فإن في حسابات بنك إسرائيل أن من تعطّلوا عن أعمالهم بسبب خدمة الاحتياط هم حوالي 200 ألف شخص.
وقال المحلل الاقتصادي ناتي طوكر، في مقال له في صحيفة “ذي ماركر” الاقتصادية التابعة لصحيفة “هآرتس“، إنه “بعد مرور شهر أصبح من الواضح أن تأثيرات هذا الحدث على الاقتصاد الكلي ستكون مؤلمة. معظم المديرين الماليين التنفيذيين، الذين يشغلون حاليا مناصب عليا، كانوا في نفس المنصب، أو في مناصب عليا أخرى، حتى أثناء أزمة كورونا، يقولون إن الصورة هذه المرة ربما ستكون أسوأ بكثير”.
وتابع: “يشعر مئات الآلاف من الأشخاص والعائلات في إسرائيل بالفعل بالضربة الاقتصادية: عائلات تم إجلاؤها من منازلها ولا تستطيع إدارة شؤونها الروتينية؛ ونحو 60 ألف شخص تقدموا بطلبات للحصول على إعانات البطالة؛ ومعهم العديد من أصحاب الأعمال الذين تم إغلاق مصالحهم، بأمر من أعلى، أو بدافع الضرورة. ويمكن القول إن كل مواطن في إسرائيل تقريباً قد يشعر بشكل مباشر بالعواقب الاقتصادية للحرب”.
وعدد طوكر في مقاله 6 جوانب للأزمة الاقتصادية هي التالية: 1. التباطؤ الاقتصادي وتراجع مستويات المعيشة. 2. كلفة المعيشة وارتفاع التضخم المالي. 3. الفوائد البنكية، وخاصة على القروض الإسكانية، فهذه العالية حاليا، ليس واضحا مصيرها، ولكن حتى لو تم خفضها ستبقى مرتفعة. 4. أسعار العقارات ستشهد ارتفاعا، أيضا بسبب تراجع وتيرة البناء بشكل حاد. 5. تقليص ميزانيات الخدمات الاجتماعية الحكومية. 6. برامج إصلاحات على الصعيد الاجتماعي ومشاريع بنيوية، على الأغلب سيتم تجميدها.
ويقول المحلل الاقتصادي أدريان بايلوت، في مقال له في صحيفة “كالكاليست”، إن وزارة المالية وبنك إسرائيل “يعتقدان أنه من الممكن مواجهة التحديات الاقتصادية التي نشأت مع الحرب، بل والتغلب عليها، وهما لا يخشيان منها. القلق الوحيد في الهيئات الاقتصادية المهنية هو نقطة ضعف واحدة تهدد الوضع الحالي للحكومة، الحكومة نفسها ومن يقف على رأسها”. وتابع: “إن وضع رئيس الحكومة مقلق بالفعل. وبعد أن كان “الغائب” المركزي عن الساحة الاقتصادية، قرر أن يدخل الحدث بعرض أهوال: اقتراح لدفع مخصصات بطالة إلى الفلسطينيين. لقد صدم الناس الذين سمعوا كلماته. وإذا لم يكن ذلك كافيا، فقد أعلن في مؤتمر صحافي مرتجل عن “فتح الصنابير المالية”. وكانت هذه مساهمته في وقت تنظر فيه جميع شركات التصنيف الائتماني إلى درجة المسؤولية التي ستدير بها حكومته شؤونها المالية. ولم يتحدث عن ترتيب جديد للأولويات”.
وكتب بايلوت “من دون الخوض في مسألة اختصاص نتنياهو في إدارة الحملة العسكرية، فمن الواضح أنه غير مؤهل لإدارة الحملة الاقتصادية، ومن الأفضل من أجل الاقتصاد أن يبقى جانباً كما فعل حتى الآن”.
ارتفاع قيمة الشيكل
حتى نهاية الأسبوع الماضي، ومع إغلاق المداولات الأسبوعية الرسمية للعملات الأجنبية، ظُهر يوم الجمعة 10 تشرين الثاني الجاري، سجل سعر صرف الدولار 3.87 شيكل، وهذا يعني عودة قيمة الشيكل تقريبا إلى ما كانت عليه يوم 6 تشرين الأول الماضي، إذ أنه قبل أن ينتهي الأسبوع الثالث للحرب، كان الدولار قد سجل ذروة 12 عاما، وبلغ سعره 4.08 شيكل للدولار، ما يعني أن قيمة الشيكل ارتفعت بنسبة 5.2% تقريبا، أمام الدولار وسائر العملات العالمية.
وحصل هذا بعد أن باع بنك إسرائيل 8.2 مليار دولار، لحماية قيمة الشيكل، وهذا من أصل 30 مليار دولار، أعلن بنك إسرائيل سابقا عزمه على بيعها لحماية الدولار. وبعد هذا البيع الفعلي، بقي في احتياط العملات العالمية في بنك إسرائيل 191 مليار دولار، وهذا أيضا حجم قياسي.
إلا أن المحللين الاقتصاديين أشاروا أولا إلى أن قسما صغيرا من تحسن قيمة الشيكل يعود إلى عوامل خارجية، أما الباقي فبسبب خطوة البنك. وحسب أولئك المحللين، فإن عوامل هبوط قيمة الشيكل ما زالت قائمة، وعلى رأسها، حالة عدم الاستقرار الأمني والاقتصادي، ما سيبعد استثمارات عالمية عن الاقتصاد الإسرائيلي، لفترة لا يمكن تحديدها منذ الآن. ولربما أن تحرك سعر الدولار في بحر الأسبوع الماضي يدل على ذلك، لأن سعر صرف الدولار هبط أكثر في وسط الأسبوع، ثم استعاد الدولار نصفاً بالمئة، في نهاية الأسبوع.
تراجع في الاستهلاك الفردي
وعلى مستوى الاستهلاك الفردي، العنصر الأساس في حركة السوق وأحد ركائز النمو الاقتصادي، قالت التقارير إن الاستهلاك تراجع بشكل حاد منذ شن الحرب على قطاع غزة، لكنه في الأسبوعين الأخيرين لوحظ ارتفاع محدود، لكنه بقي دون المعدل العام، لمثل هذه الفترة من كل عام، إذ تبين أنه في الأسبوع الماضي، كان الاستهلاك الفردي أقل بنسبة 12.4% مما كان عليه في ذات الأيام، من العام الماضي.
وحسب التقرير، فإن معدل الاستهلاك الفردي الأسبوعي، بمعنى المشتريات العامة، بلغ خلال العام الجاري 9 مليارات شيكل أسبوعيا، وفي الأسبوع الماضي بلغ حوالي 7.8 مليار شيكل. ومن الممكن التقدير أن هذا الارتفاع ناجم عن تراجع كمية المواد الغذائية وغيرها، التي سارعت العائلات لتخزينها مع اندلاع الحرب، ولكنه ليس نابعا من ارتفاع صرف على قضايا حياتية غير أساسية للمعيشة اليومية، مع توقف قطاعات متعددة، أو تراجع حاد في نشاطها، مثل السياحة الداخلية، والترفيه، وارتياد المطاعم، وحياة الرفاه بشكل عام.
أحد التقارير اللافتة، التي نشرت في الصحافة الاقتصادية، كان التراجع بنسبة 40% في الصرف على الملبوسات في شهر تشرين الأول الماضي، مقارنة بحجم المبيعات في ذات الشهر من العام الماضي 2022، وهذا مؤشر هام، لأن الشهر الماضي، كالحالي- تشرين الثاني- هو موسم شراء ملبوسات، استعدادا للشتاء.
واستند هذا التقرير على مسح لـ 2800 محل ملبوسات في المجمعات التجارية، في مختلف مناطق البلاد، وتبين أن تراجع المبيعات في المجمعات التجارية الكبيرة المفتوحة، أي التي ليست في أبنية مغلقة، بلغ بنسبة 37%، بينما بلغت نسبة التراجع في المجمعات في الأبنية المغلقة 50%، ومن الممكن الاستنتاج بأن هذا مرتبط بشكل حركة الجمهور الحذرة تحت وطأة الوضع القائم الآن.