أولاً، لا بدّ من التذكير بأن لبنان لا يزال في حالة وقف العمليات العسكرية مع كيان العدوّ الإسرائيلي، وبالتالي لم يدخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ ما يعني أن جبهة المواجهة مع جيش هذا الكيان كانت دائماً مفتوحة، والدليل أن هذا الجيش لم يتوقف يوماً عن ممارسة اعتداءاته من خلال الطلعات الجوية في سماء لبنان، واستعمال أجوائه للاعتداء على الشقيقة سوريا، إضافة إلى محاولاته الدائمة لاختراق ما يسمّى الخط الأزرق بهدف إجراء تعديلات جفرافية – أمنية في رقعة انتشاره على حدود لبنان المحتلة، فضلاً عن استمراره في احتلال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني من قرية الغجر.
ولذا، فإنّ المقاومة غير معنيّة بتبرير أو تفسير أسباب اندفاعها إلى إشغال جيش العدوّ، وخصوصاً أن هذا الجيش كان دائماً البادئ بالعدوان مدعوماً بمحاولاتٍ قادتها واشنطن أكثر من مرة لتغيير ما يسمّى قواعد الاشتباك التي أرساها القرار الدولي 1701 لجهة مهام قوات الطوارئ الدولية (اليونيفل) وضرورة التزامه بتنسيق تحركاته مع الجيش اللبناني.
وبالتالي، بعيداً عن التزام حزب الله بإقران قوله بالفعل في ما يتعلّق بنصرة الإخوة الفلسطينيين عند الحاجة إلى ذلك، وهذا بحث آخر، فإنّ فرصة كالتي أتاحها عدوان الكيان الإسرائيلي على غزة لتثبيت قواعد ردع جديدة على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة تبدو ممكنة المنال، في ظل تقهقر جيش العدو وتراجعه إلى مواقع خلفية بعيدة عن تلك الحدود خوفاً من اصطياده من قبل رجال المقاومة، ومع ذلك لم يفلح في تجنّب عمليات الاصطياد تلك.
ليس خفيّاً على المتابعين الحراك الأميركي في ما يتعلق بموضوع «ترسيم» الحدود البرية، لكن الخفيّ أن موفدي واشنطن أو ديبلوماسييها المقيمين في لبنان لم ييأسوا من إعداد الخطط لاستثمار مرحلة ما بعد غزة لبنانياً، وذلك تعويضاً عن إفشال المقاومة محاولاتهم لإطلاق عملية تفاوضية غير مباشرة مشابهة لعملية ترسيم الحدود البحرية الشهيرة، وانطلاقاً من بث أجواء مغرية قائمة على الموافقة الأميركية – الإسرائيلية المسبقة للبحث في موضوعَي نقطة الـ B1 ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر. هذا جانب الترغيب، أمّا الجانب الآخر، وهو الترهيب، فيقوم على إمكانية الاستفادة من عوامل الضغط ذاتها التي استعملت في موضوع الحدود البحرية لـ«إقناع» الطبقة السياسية الحاكمة بتمرير «الترسيم» البري بأقلّ «تنازلات» ممكنة يقبل بها العدوّ الإسرائيلي.
ويعتقد بعض الديبلوماسيين الغربيين العاملين في لبنان أنه لو تمت عملية تمرير «ترسيم» الحدود البرية خلال الأشهر الماضية، لكان بالإمكان تجنيب إسرائيل، وجيشها بالأخص، الخسائر البشرية والمادية والمعنوية التي يتكبّدها يومياً نتيجة عمليات مقاومة حزب الله، وأيضاً كان بإمكان هذا الجيش التفرّغ لتعزيز قدراته في حربه العدوانية على غزة، وهو أمر في غاية الأهمية بالنسبة إلى واشنطن وحلفائها الذين يرغبون في إعلان انتصار على المقاومة الفلسطينية، وبالأخص منها حركة «حماس». في حين أن الدعاية السياسية التي اعتمدتها دوائر الديبلوماسية الغربية حول لبنان كانت ولا تزال تركز على اهتمامها بضرورة عدم انغماس لبنان في الحرب الدائرة في غزة حفاظاً على لبنان وبهدف تجنيبه ويلات المشاهد التي تتكرر يومياً في غزة من قتل ودمار وتهجير.
كل ذلك يقودنا إلى سؤال مركزي حول إمكانية العودة إلى القبول بـ«التفوق» السياسي الإسرائيلي الذي مكّنه من استباحة الأراضي والأجواء اللبنانية على مدى 17 عاماً متسلّحاً باكتفاء الدولة اللبنانية بنقل الشكاوى إلى اللجنة الثلاثية المعتمدة في الناقورة، أو باتكاله على راعيه الأميركي الذي يحضر ديبلوماسيّوه في أروقة أركان السلطة اللبنانية لإبلاغ رسائل تحذير أو تطمين لهم بأنه، أي الراعي، يعالج الأمور مع حكومة كيان العدو!
إضافة إلى سؤال آخر مهم أيضاً حول السماح مجدداً لجيش العدوّ بإعادة إنشاء منصات وأبراج مراقبة ورصد وتجسس على الحدود والقرى اللبنانية المتاخمة لما يسمى «الخط الأزرق». في حين لم تفكر الدولة اللبنانية يوماً في إنشاء منصات وأبراج مماثلة تضع الجانب الآخر من الحدود تحت المراقبة والرصد! وهي حاجة ماسّة وضرورية لمتابعة تحركات جيش الكيان الذي لم يتوانَ يوماً عن الاعتداء على لبنان انطلاقاً من ذلك الجانب.
وسؤال ثالث لا يقلّ أهمية حول فعالية دور قوات «اليونيفل» التي يبدو أنها لم يتسنَّ لها خلال الأسابيع الماضية تطبيق أيٍّ من مندرجات القرار 1701 ولا حتى تسجيل ومعالجة الخروقات التي يقوم بها جيش العدوّ ضدّ لبنان واللبنانيين، بعدما أمضى ضباطها وجنودها معظم أوقاتهم يختبئون في الملاجئ!