لا يعود للحديث عن قرار ترميم لواء جولاني ولواء المظليّين أيّ معنى في ترتيب وضع هذه الألوية بما يؤهلها لخيار العودة إلى الحرب، عندما يعقبه بيوم واحد الإعلان عن بدء مرحلة ثالثة من الحرب تقوم على تسريح مئة ألف جنديّ من الاحتياط الذي تمّ استدعاؤه، ويبقى من الاحتياط خمسون ألفاً فقط لتعويض الفراغات التي لحقت بالقوى النظامية ووحدات النخبة. ويرجح كما تقول المصادر الإعلامية الإسرائيلية أن يكون التوجّه لفتح باب التطوّع أمام الراغبين من جنود وضباط الاحتياط لملء هذه الشواغر. والمرحلة الثالثة تعني سحب جيش الاحتلال من الكثير من خطوط الانتشار، والأرجح التموضع في المستوطنات التي تمّ تفكيكها سابقا قبل الانسحاب من غزة عام 2005، حيث تتم ترتيبات هندسية وإنشائية توحي بذلك، وبالتوازي وقف عمليات الإغارة الجوية والقصف المكثف على مدن ومخيمات غزة، والسعي إلى الاحتفاظ بنقاط تمركز شرق قطاع غزة خصوصاً قبالة الشجاعية وخان يونس من جهة مناطق ومستوطنات غلاف غزة، واعتبار أن المرحلة الانتقاليّة لبلوغ المرحلة الثالثة الممتدة حتى نهاية العام سوف تشهد عمليات برية واسعة في محاور خان يونس فقط، على أن يعقبها انسحاب الى المناطق المنتقاة للتمركز، وبعدها يُكتفى باستمرار لعمليات استهداف محددة تحت شعار أن الحرب مستمرة ولم تتوقف، بانتظار ما سوف يحصل على مسار الوساطات ومساعي التفاوض لتبادل الأسرى. وهذا هو نمط الحرب الذي قد يستمر الى شهور.
التدقيق في مضمون ما تتم تسميته بالمرحلة الثالثة من الحرب يقول إن جيش الاحتلال يعتمد الوصفة الأميركية للاعتراف بفشل الحرب، ويمنح نتنياهو جائزة ترضية عنوانها أن الحرب لم تنته، لأن ما لم يتحقق عبر الحرب الضارية لن يتحقق بالحرب الباردة والناعمة. وهنا تصبح المقالة المنشورة في صحيفة هآرتس أمس، واستطلاع الرأي الذي نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت، والكلام الأميركي الذي باح به الخبير الأميركي في الشؤون الاسرائيلية، والصديق الدائم لتل أبيب مارتن انديك، وقرار مجلس الأمن الذي لم يقل شيئاً فعلياً سوى أن مرحلة الحديث السياسي قد تم الإفراج عنها، لتبدأ ولو لم يتم إعلان وقف لإطلاق النار، لتشكل كل هذه العناصر إطار الصورة التي يرسمها جيش الاحتلال، بعدما صارت الإمرة الفعلية له في قول كلمة الفصل في مستقبل الكيان، بوجود قيادة سياسية عاجزة عن تقديم أجوبة على الأسئلة الصعبة.
قرار مجلس الأمن بغياب فيتو أميركي وفيتو روسي مع تصويت 13 عضواً في مجلس الأمن الدولي، هم بقية أعضاء المجلس، هو طريقة للقول إن المسافة التي تفصلنا عن نهاية الحرب لا تزال طويلة، لكن السير نحوها كان ينتظر إشارة الانطلاق وها هي تصدر. وبالتوازي كلام مارتن إنديك صاحب النصيحة التاريخيّة بحرب استئصال حركة حماس عام 2008، بقوله هذه المرة باستحالة استئصال حماس، له معنى وإشارة من أصدقاء «إسرائيل» الأميركيّين بضرورة قراءة المتغيرات، وإنديك يحذر من عزلة إسرائيلية دولية وخسارة أميركية بل يهودية أيضاً، ويضيف ان إصابة حماس بجروح وكدمات لا تعني إمكانية هزيمتها، وحالها مثل حال «إسرائيل»، مصابان وجريحان لكنهما على قيد الحياة وقادران على القتال، وقدرهما التساكن، وعندما يتحدّث عن السلطة الفلسطينية فهو يقول بوضوح إنها لن تستعيد العافية اللازمة لتحمل مسؤولية غزة بعد الحرب ما لم تتسلم مسؤولية الضفة الغربية أولاً، وفق رؤية تملك المصداقية ببلوغ حل الدولتين. وكل هذه الإشارات تأتي مع تسارع تبلور رأي عام داخلي في الكيان، لم تعد الحرب وصفته الأولى، كما عليه الحال في 7 تشرين الأول غداة طوفان الأقصى. وهنا قيمة استطلاع الرأي الذي نشرته يديعوت أحرونوت، الذي كشف عن تأييد 67% من الرأي العام في الكيان لوقف إطلاق نار دائم مع صفقة تبادل أسرى شاملة، مقابل معارضة 22% فقط، وهي نتيجة ذات مغزى لجهة نضج خيار تجرّع الهزيمة داخل الكيان، وعزلة التيار الداعي لمواصلة الحرب، والذي كان يمثل قبل خمسة وسبعين يوماً 65% وفق استطلاع رأي لصحيفة معاريف في 20 تشرين الأول الماضي.
يبقى الأهم ما نشرته صحيفة هآرتس عن تصوّر سياسي للمرحلة المقبلة، ربما يشكل أطراً لفهم تحرّك نخبة الكيان نحو الإقرار بالهزيمة، والانفتاح على مسارات جديدة تحت وطأتها، تقول هآرتس «نحن لن ننتصر. حتى لو كنا معاً. المعركة الحالية في غزة على حقنا بوطن قوميّ في أرض «إسرائيل» خسرناها في 7 اكتوبر. كل يوم إضافي في العملية البرية فقط يعزّز الفشل. عندما ستنتهي هذه المعركة الحالية، كما هو متوقع خلال بضعة أسابيع في أعقاب الضغط الدولي، فإن «اسرائيل» ستكون في وضع أصعب من الوضع الذي دخلت فيه الى هذه الحرب في أعقاب الهجوم الوحشي لحماس. هل يمكن أن ينبت من داخل الفشل أي شيء جيد؟ هل ربما نهاية النزاع؟
وبعد أن تستعرض المسارين المتعاكسين لنمو شعبية حماس بين الفلسطينيين وتراجع شعبية بنيامين نتنياهو بين «الإسرائيليين»، ونجاح الرواية الفلسطينية بالتفوّق على الرواية الإسرائيلية عالمياً، ونجاح حلفاء حماس بإرباك «إسرائيل» وتعطيل قوة الردع الاميركية، خصوصاً من لبنان واليمن، تخلص هآرتس الى القول «فشل حرب يوم الغفران ونجاح المصريين في اجتياز القناة عملت على إعادة الكرامة لمصر وأدت إلى التوقيع على اتفاق السلام. اعتراف «إسرائيل» بالهزيمة في المعركة الحالية، كما ذكر أعلاه، سوف يساعد في إعادة الكرامة الوطنية للفلسطينيين، التي تمّ سحقها خلال 56 سنة. هذا كما يبدو هو المرحلة الحيويّة في العملية التي ستؤدي الى وقف القتال في غزة والى صفقة تبادل سيتم فيها إطلاق سراح جميع السجناء الفلسطينيين مقابل جميع المخطوفين، الذين مصيرهم مرهون بالفترة التي ستمرّ الى حين اعتراف «إسرائيل» بهذا الواقع. اسرائيل ستضطر الى الاعتراف بحق الفلسطينيين بدولة مستقلة ذات سيادة وإجراء المفاوضات مع أي قيادة يقومون باختيارها حول إنهاء النزاع على أساس قرارات الأمم المتحدة والمبادرة السعودية. هل يمكن أن كارثة 7 أكتوبر تبشر بأفق جديد في الشرق الاوسط؟