مقالات

الحزام الأمني في غزة لن يوفر لإسرائيل الأمن الذي ضاع تاريخ المقال

هآرتس - تسفي برئيل

( إسرائيل والأراضي المحتلة سنة 1967 )

لم يكن في وسع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن يكون أكثر وضوحاً، عندما قام بترسيم الحدود المشروعة، أميركياً، للحرب في قطاع غزة. ففي العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر، عرض الرجل المبادئ التي ستصر واشنطن عليها: “لن يكون هناك تهجير قسري للمدنيين من قطاع غزة، وغزة لن تكون مجدداً وكراً لانطلاق نشاطات “إرهابية” ضد إسرائيل، ولن يجري أي تقليص لمساحة القطاع، وسيكون هناك التزام بوجود سيطرة فلسطينية موحدة على الضفة الغربية والقطاع”.
الفجوة القائمة بين المخطط والواقع تبدو عميقة في هذه اللحظة، فقطاع غزة لا يزال كقاعدة لانطلاق الهجمات ضد إسرائيل، وقد جرى فعلاً تهجير جماعي مكثف للسكان، مع فرار مئات الآلاف من الغزيين من شمال القطاع إلى جنوبه، وهم في هذه المرحلة غير قادرين على الرجوع إلى منازلهم، وليس من الواضح ما إذا كانوا سيتمكنون من العودة، بعد انقشاع غبار المعارك.
يظهر الآن مسار تصادُم حتمي ثالث بين إسرائيل والإدارة الأميركية. لقد ذكرت وكالة رويترز أن إسرائيل بلّغت عدداً من الدول العربية أنها تعتزم إقامة منطقة عازلة بين إسرائيل وقطاع غزة، بعد انتهاء الحرب. وبحسب التقرير، لقد أعلمت إسرائيل الأردن ومصر والإمارات وتركيا والسعودية بمخططها المذكور. التقرير المنشور في رويترز لا يفصّل أي جوانب تقنية لذلك الحزام الأمني المستقبلي، لكن في الإمكان الافتراض أن الحديث هنا يدور حول منطقة محايدة على امتداد الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة، بأعماق مختلفة، إذ يهدف نشر هذا الحزام إلى الحؤول دون تسلّل “المخربين” إلى إسرائيل، سواء على الأقدام، أو بالسيارات.
الافتراض العملاني لهذه الخطة هو أن قطاع غزة سيظل مصدراً للتهديد البري، حتى بعد انتهاء الحرب، وحتى في حال تم القضاء على التهديد الصاروخي. ومن المفترض أن يمنع هذا الحزام الأمني الخطر، أو على الأقل، يمنح قوات الأمن الإسرائيلية الوقت الكافي للاستعداد لمواجهته.
“الحزام الأمني” ليس اختراعاً جديداً في العالم، أو في الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، قامت تركيا بإنشاء حزام أمني يفصل بينها وبين سورية، بالإضافة إلى السياج الذي تم إنشاؤه قبل أعوام بين البلدين، في حين قامت مصر بـ “تطهير” منطقة يبلغ عمقها نحو 3 كيلومترات، على طول الحدود بين قطاع غزة وسيناء.
من أجل تحقيق مثل هذا الحزام الأمني، قامت تركيا باحتلال مناطق في العمق السوري على امتداد الحدود التركية، وأنشأت فيها قواعد عسكرية، حيث نشرت قوات تركية تعمل بالتعاون مع ميليشيات من المتمردين السوريين الذين تمولهم تركيا. كما تسيطر تركيا بصورة مباشرة على عدد من البلدات والقرى السورية، حيث تدير فيها معظم البنى التحتية المدنية، وقوات الشرطة.
بيْد أن مطامح تركيا ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير. إذ تسعى أنقرة لتعميق الحزام الأمني المشار إليه إلى عمق يبلغ 30 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، بهدف إبعاد السكان الأكراد إلى الداخل السوري، وبذلك تخلق منطقة أمنية ثابتة تحميها من الهجمات الصاروخية، لا من التسلل على الأقدام.
تخدم المنطقة الأمنية التركية أيضاً هدفاً ديموغرافياً. فتركيا تخطط لنقل نحو مليون لاجئ سوري إلى هذه المنطقة، وهذا العدد يبلغ نحو ربع اللاجئين السوريين الذين يقطنون في تركيا منذ اندلاع الحرب الأهلية في سنة 2011، وهكذا، تُحدث تحولاً ديموغرافياً تقوم من خلاله بتخفيف كثافة السكان الأكراد، الذين تعتبرهم تركيا مُعادين لها، ليحل محلهم سكان سوريون عرب. وبحسب المطامح التركية، فإن إقصاء الأكراد، أو تخفيف كثافتهم السكانية بصورة ملموسة، من شأنه أيضاً وضع حد لحلمهم بدولة مستقلة يتوحد تحتها الأكراد في تركيا والعراق وسورية وإيران.
هناك عدد من أوجه الشبه بين الاستراتيجيا الإسرائيلية وتلك التركية فيما يتعلق بالمجموعات القومية التي تهدد أمن البلدين، إذ يبرز التشتت الجغرافي والانقسام الأيديولوجي اللذان يعيقان المطامح القومية للمجموعتين السكانيتين في الحالتين. نشير هنا إلى أن انعدام الاتصال الجغرافي السياسي بين الأكراد، كان قائماً منذ الحرب العالمية الأولى، كما أن الانقسام الأيديولوجي بين الأكراد عميق، ويشمل الأكراد الموجودين في سورية، أو العراق، وأكراد تركيا ومطامحهم، فضلاً عن الانقسامات الداخلية داخل الفئات الكردية في البلاد المذكورة، والتي تضمن تأجيل تحقيق حلم الحكم الذاتي إلى زمن آخر لا يقع في الأفق المنظور.
بصورة عامة، يمكننا أن نرى مثل الخلافات المذكورة في العلاقات السائدة بين “فتح” و”حماس”، وبين هاتين الحركتين وسائر الفصائل الفلسطينية، بالإضافة إلى انعدام التواصل الجغرافي، وشكلت هذه العوامل كوابح أساسية للتوافق الوطني الفلسطيني على حل سياسي، وخدمت مصالح إسرائيل التي رعت الانشقاقات الفلسطينية، والانفصال بين قطاع غزة والضفة الغربية.
لكن الحزام الأمني الذي أنشأه الأتراك في سورية لمواجهة التهديد الكردي، غير قادر على تهديد التطلعات الوطنية الكردية، ولا واقع الاحتلال الذي تعيشه بعض الأقاليم الكردية في سورية قادر على ذلك. فعلى الرغم من الوجود العسكري التركي في الحزام الأمني، فإنه يشهد اشتباكات عنيفة وشبه يومية بين القوات الكردية والأتراك، كما أن مثل هذا الحزام قد يفشل أيضاً في إحباط هجمات الأكراد داخل تركيا كلياً. لم تتمتع تركيا بهدوء أمني نسبي إلا عندما شرعت في التفاوض مع قيادة حزب العمال الكردستاني في سنة 2009، في إطار ما عرّفه أردوغان بـ”سياسة الانفتاح على الأكراد”، وهي السياسة التي تم في إطارها التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في سنة 2013، انتهت صلاحيته بعد مرور عامين.
إن الحزام الأمني التركي داخل الأراضي السورية، يذكّرنا، إلى حد كبير، بالحزام الأمني الذي أنشأته إسرائيل داخل الأراضي اللبنانية، والذي تحول إلى ميدان قتال مستمر بين إسرائيل وحزب الله، بعد طرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. وكان من المفترض أن يؤدي القرار 1701، الذي أنهى حرب لبنان الثانية، إلى نشوء حزام أمني جديد بين الجنوب اللبناني وإسرائيل، لكن الفشل المدوّي للبنان والمجتمع الدولي، اللذين كان يجب عليهما تطبيق هذا القرار، بواسطة قوات تابعة للأمم المتحدة، حوّل هذا القرار إلى حبر على ورق.
وعلى عكس الحزام الأمني التركي الذي يقع بالكامل في الأراضي السورية، أو الحزام الأمني الإسرائيلي الذي أقيم على الأراضي اللبنانية، فإن الحزام الأمني المصري، الذي أقيم منذ سنة 2015، لا يقتطع مناطق من أراضي القطاع. وفي المقابل، فإن هذا الحزام أكثر وحشيةً من الحزام التركي، لأنه فرض على آلاف المدنيين المصريين هجر منازلهم على امتداد الحزام، والانتقال إلى قلب سيناء، وإلى مدينة العريش ومحيطها على وجه الخصوص، لقد تم اقتلاع آلاف الأشجار، وتدمير آلاف المزارع، وهدم آلاف المنازل والبنى التحتية، من أجل التهيئة لهذه “المنطقة المطهرة”. وإلى جانب ذلك، قامت مصر بردم آلاف الأنفاق التي ربطت بين القطاع وسيناء، وتحولت إلى مسار انتقال للسلاح والمعدات العسكرية الموجهة إلى حركة “حماس”، كما تحولت إلى مسار نقل مكثف للبضائع المدنية والسكان على جانبَي الحدود.
يُعتبر الحزام الأمني المصري فعالاً، وتختلف أهدافه عن تلك التي تطرحها تركيا وإسرائيل، إذ إن مصر لم تتعرض لهجوم بالصواريخ، أو إطلاق النار من قطاع غزة، وكان الهدف الكامل من إنشاء الحزام الأمني يتمثل في منع مرور “الإرهابيين الأعضاء في المنظمات الإرهابية” في سيناء، وضمنهم أعضاء في “تنظيم الدولة”، من سيناء إلى قطاع غزة، وعودتهم مجدداً إلى سيناء، والأهم من ذلك، أن السلام الذي تمكنت مصر من تحقيقه على الحدود بينها وبين قطاع غزة، كان مدعوماً بعلاقات وثيقة، تضغط وتهدد “حماس” التي التزمت، بل وعملت، على منع مرور “الإرهابيين” من سيناء إلى القطاع ومنه.
لن يتمكن الحزام الأمني، حتى في ظل سيناريو القضاء على حركة “حماس”، من توفير الأمن لمواطني إسرائيل الذي انتُزع منهم، من دون وجود تسويات أمنية متفّق عليها مع سلطة فلسطينية سيتعيّن قيامها في قطاع غزة، والتي قد تحبط عودة نمو تنظيمات تسعى للاشتباك المسلح. وعلى النقيض مما جرى في سيناء أو سورية، حيث العمق الجغرافي للحزامين الأمنيَين هناك يتيح تنقّل المدنيين إلى داخل الدولة، فإن قطاع غزة عبارة عن قفص مغلق. وكل قطعة أرض يتم اقتطاعها لمصلحة إقامة حزام أمني، ستؤدي إلى تهجير آلاف السكان الذين سينتقلون إلى مناطق أكثر اكتظاظاً، فيزيدون في اكتظاظها، في منطقة تُعتبر أصلاً من أكثر المناطق اكتظاظاً في العالم. النتيجة المتوقعة لهذا كله ليست صعبة التخمين: فمن دون وجود تسويات سياسية، ربما تصبح بلدات “غلاف غزة” آمنة، لكن الجيش الإسرائيلي سيتحول، في الحزام المنزوع السلاح، إلى هدف للضربات المباشرة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى